شكّلت العلاقات الثّقافيّة الفكريّة بين الشّرق والغرب إحدى أهمّ القضايا جدلًا في السّاحة الثّقافيّة النّقديّة. وقد ولّد هذا التّفاعل تطوّرًا لصورة "الأنا والآخر" على الأصعدة التّالية: المجتمعيّة والنّفسيّة والعلميّة والفنيّة والأدبيّة. ومن أبرز ظواهر التّفاعل الحضاريّ في عالمنا العربيّ، ظاهرة الاستشراق الّتي تُعْتَبَرُ وجهًا من وجوهه. وقد عرفت العقود الأخيرة اهتمامًا متزايدًا بهذا الموضوع الّذي كان وما يزال مطروحًا على بساط البحث في أوروبا وأميركا أكثر منه في البلاد العربيّة. فعلاوةً على ما نُشِرَ عنه في الصّحف والمجلّات بمختلف اللّغات، وبصورةٍ متواصلةٍ تكاد تكون يوميّة، عُقِدَت في مختلف أنحاء أوروبا وأميركا ندواتٌ عن الموضوع عينه، حملت عناوين مختلفة كـ"الأنا والآخر" و"الشّرق والغرب"، أو "العرب والغرب" وغيرها من عناوين. وقد تطوّر الأمر إلى أن توسّع الكلام في هذا الموضوع ليندرج تحت ما أسماه صاموئيل هنتنغتون بـ"صراع الحضارات"، الّذي يعني به أساسًا، الصّراع بين الحضارة العربيّة والحضارة الغربيّة الأوروبيّة- الأميركيّة ، ويجعل منه الصّراع الرّئيسيّ الّذي سيسود في المستقبل. ولعلّ استمرار تلك الإشكاليّة في الاستحواذ على حيّزٍ كبيرٍ من الدّراسات الأدبيّة والثّقافيّة، كان بسبب الأفكار الّتي أوجدها الاستشراق والّتي انطبعت في أذهان الأنا والآخر معًا، رغم التّقدّم في شتّى المجالات. وما ساعد على استمرار طرح تلك الإشكاليّة محاولة "الأنا العربيّة" اتّخاذ حيّز لها، للتّأكيد على الاعتراف بهويّتها ومن ثمّ إقامة حوار مع الآخر، بغية الوصول إلى بناء صورة جديدة من خلال التّعايش والتّفاعل من دون النّظر إلى اختلاف الهويّة أو التّوزيع الجغرافيّ للمجتمعات. من هنا يطرح البحث إشكالية أساسيّة تنبثق منها عدّة تساؤلات ألا وهي: كيف تبلورت ثنائيّة الأنا والآخر؟ وكيف تحدّدت معالمها ضمن إطار الاستشراق؟